لقدْ كانت كتابة التأريخ ،وما زالت،موضوع الصراع على السلطة حيث يقوم أصحاب القرار في السلطة السياسية بتسييس التأريخ لصالحهم ضد فئة أخرى معارضة.
و قد سار التأريخ العراقي على هذا النهج منذ أقدم العصور حتى تراكم هذا الموروث والحقب التاريخية المؤدلجة والمطيفة واليوم نرى تراكم هذا الخلاف ونلمسه في خطابات الساسة العراقيين.
إذن، أي نوع من التأريخ نكتب بحيث يلاقي قناعة وقبول الجميع؟ أي كتابة للتأريخ حرية بجمع الفرقاء على الاقل الاتفاق على تأريخ العراق الحديث الذي شهد كما كبيرا من الحروب والايدلوجيات والتناحر والعنف؟ يعاني البحث العلمي والأكاديمي في العراق خصوصا في مجال العلوم الاجتماعية من الأسلوب السردي العشوائي،حيث لا يهتم الباحث إلى أين يقوده هذا السرد وما هو هدفه والفائدة العلمية التي يمكن بها أن يخدم البحث والباحثين. لا يترك السرد بطبيعة الحال حيزا إلى التحليل العلمي، هذا إذا ما قلنا أن أكثر البحوث تفتقر إلى الهدف والإشكالية. يوجد هناك بالطبع من شذ عن القاعدة السردية وركز على التحليل الاقتصادي والاجتماعي أمثال علي الوردي وشاكر مصطفى سليم وعبد العزيز الدوري وبشكل اقل بدري محمد فهد.
يجب أن تكون هناك صحوة ضد المجتمع الأكاديمي والبحثي المحافظ. يجب أن يتخلى أستاذ الجامعة عن أوراقه الصفر، من شدة القدم، التي يمليها على طلبته منذ عشرات السنين ويستبدلها بأفكار وأساليب جديدة تتناسب والتطورات المجتمعية والاقتصادية والسياسية. كما يجب أن يتحرر الباحث من الدولة الريعية التي تحاول احتواء كل شيء وتسييس التأريخ. وهو ما تحدث عنه علي الوردي في اغلب مقدمات كتبه حيث تناول باستمرار موضوعية الباحث والمسافة التي يجب أن تفصله عن الحدث لتحاشي التسييس والطائفية.
وقد تناول ذلك عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر بإسهاب في كتابه (العالم والسياسي). وهو ما ركز عليه الجيل الأول للحوليات مارك بلوخ ولوسيان فيفر بقولهم (يجب أن يكون التأريخ مستقلا وبمنأى عن كل تأثير ولا تتحقق هذه الاستقلالية إلا إذا اخذ المؤرخ مسافة تفصله عن الموضوع الذي يريد دراسته) ،و هذا ما يعبر عنه بعلاقة المؤرخ بالزمن. أن احد الأسباب التي دفعت المؤرخ لوسيان فيفر بتأسيس الحوليات وضرورة إعادة كتابة التأريخ هو كهولة المجتمع الجامعي في فرنسا وإصراره على السير بمنهج مدرسة التأريخ الكلاسيكية.
ومن مساوئ كتابة التأريخ التي أشار إليها فيفر انه كان أداة لخدمة الجمهورية الثالثة في فرنسا حيث كان يدرس كبروباكندا لخدمة النظام السياسي. حاول المؤرخون الفرنسيون على سبيل المثال تبرير الاحتلال الفرنسي للجزائر لإقناع الرأي العام وتهدئة الوضع الداخلي في فرنسا. لذلك سعى مؤرخو الحوليات على أن لا يقتصر التأريخ على السياسة وأن لا يكون في خدمة السياسة. لا بد أن نفيد من تجارب الأمم والشعوب خصوصا تلك التي شهدت حروبا وأزمات مشابهة لظروف العراق. نرى أن كتاب الحوليات هو أفضل من عالج موضوع كيفية إعادة كتابة التأريخ. ما هي الحوليات ومن هم كتاب الحوليات وما هي الأفكار التي طرأت على كتابة التأريخ؟ لا شك في أن الظروف التي عصفت بأوربا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين من حروب وأزمات اقتصادية واجتماعية دفعت بالكثير من علماء العلوم الاجتماعية بإعادة النظر في المناهج المتبعة في كتابة التأريخ.
حاول هؤلاء الكُتاب إيجاد مواطن الخلل في المناهج القديمة المتبعة في محاولة للخروج بأوربا من حالة الحروب والأزمات التي كادت أن تكون شبه مستمرة آنذاك. إلا أن المسألة لم تكن بهذه السهولة،فقد واجه كُتاب الحوليات مواجهة شرسة من أنصار المنهج التقليدي. في العام 1929، وهي السنة التي شهدت اعنف أزمة اقتصادية تلت الحرب العالمية الأولى شرع عدد من المؤرخين أبرزهم لوسيان فيفر ومارك بلوخ بتأسيس مجلة تعد الأولى من نوعها في فرنسا خلال القرن العشرين حملت اسم (الحوليات، التأريخ الاقتصادي والاجتماعي). لكنها لم تكن مجلة فحسب وإنما عُدت بمثابة مدرسة متكاملة لما جاءت به من أفكار ومبادئ جديدة في كتابة التأريخ.
من أهم المحاور الذي جاءت بها مدرسة الحوليات أن التأريخ يجب أن يكتب بشكل كامل، أي تأريخ شامل بحسب عبارة فيفر وبلوخ. ماذا يعني بالتأريخ الشامل والكامل؟ أي يجب أن لا تقتصر كتابة التأريخ على الأشكال السياسية والدبلوماسية والعسكرية .ومن الضروري أن يغطي التأريخ الجوانب الأخرى، لاسيما الاقتصادية والاجتماعية ،التي غالبا ما يتناساها المؤرخون. بطبيعة الحال كانت هناك معاناة كبيرة في إقناع مؤرخي وأنصار المدرسة التقليدية أمثال سينيبوس ولافيس بإعادة كتابة التأريخ على أسس وأفكار جديدة كليا عن تلك المتبعة من قبل. لكن كتاب لوسيان فيفر (معارك من اجل التأريخ) احدث ثورة في مفهوم كتابة التأريخ وأصبح مرجعا يقتدي به أنصار مدرسة الحوليات.
أراد فيفر في هذا الكتاب إيقاظ كسل وإهمال المؤرخين للتاريخ الشامل،أي للتاريخ الاجتماعي والاقتصادي. الشيء الجديد والمهم التي جاءت به هذه المدرسة هو هدم الجدران التي تفصل ما بين العلوم الاجتماعية، التأريخ، الجغرافية، الاجتماع والاقتصاد بحيث لا يكون المؤرخ حبيس الأحداث السردية فحسب، ولأجل أن يكون تأريخا شاملا من الواجب على المؤرخ أن يتناول كافة الأبعاد الاقتصادية، الجغرافية والاجتماعية ،التي غالبا ما تتوارى وتمسخ خلف الأحداث الكبرى كالحروب أو الشخصيات المعروفة، التي كان يسميها فيرنان برودل، احد مؤرخي الحوليات، بأنصاف الآلهة. إن مؤرخي الحوليات ليسوا ضد الأحداث التاريخية الكبرى لكنهم يرفضون أن يهمش التأريخ الاقتصادي والاجتماعي لصالح هذه الأحداث. يجب أن يؤخذ التأريخ بكليته.
وبهذا الصدد، يقول فيرنان برودل، المنتمي إلى الجيل الثاني لمدرسة الحوليات، يجب الانتفاض ضد التأريخ المقتصر على الأفراد (الأبطال) فنحن لا نعتقد بتأليه هؤلاء الأبطال كما أننا نعارض العبارة المتعالية لترتسجيك التي تقول (الرجال هم من يصنع التأريخ) بل أن التأريخ يصنع الرجال أيضا ويرسم مصيرهم.
ومن الجدير بالذكر، اهتم مؤرخو الحوليات بإعادة تنظيم العلاقة بين التأريخ والزمن من جهة وبين التأريخ والحيز من جهة أخرى. لقد ثاروا ضد ما يسمى السرد التاريخي القصصي للأحداث والشخصيات الكبيرة. فهم لا يؤمنون البتة بكتابة التأريخ على شكل أحداث سردية متتابعة تسير بإيقاع واحد يسوده الجمود دون تناول التحليل الاجتماعي والاقتصادي حول الحدث أو البطل وهذا ما عبر عنه برودل بالزمن الموجز والزمن الطويل. فقد أدان الزمن الموجز الذي يقتصر على سرد الأحداث القصيرة المتتابعة وحفز على استخدام الزمن الطويل الذي يأخذ بالتحليل كافة الأبعاد الأخرى عن طريق الدخول إلى العلوم الاجتماعية، خصوصا السوسيولوجيا والاقتصاد والجغرافيا. يبرهن برودل حديثه هذا عن الزمن الموجز والزمن الطويل بقوله "كتب التأريخ الكثير عن الحرب العالمية الأولى لكنه لم يمنع الأزمة الاقتصادية التي تلت الحرب عام 1929. إن تأريخ الأغلبية هو ليس تأريخ بضعة شخصيات على المسرح العالمي وان الأحداث الكبرى هي ليست بالضرورة الأحداث الأكثر أهمية، في نفس الوقت هناك أحداث مختبئة وغير مرئية بالنسبة للمؤرخ باستطاعتها أن تغير حياة العالم".
أما عن علاقة التأريخ بالحيز، فأن مجمل المفاهيم التي جاءت بها مدرسة الحوليات فتحت الطريق أمام دراسات وأفكار جمة ليس في مجال التأريخ فحسب بل في كافة العلوم الاجتماعية. على اثر ذلك، ظهرت طرق أخرى في التعامل مع الحدث،فأخذت الدراسات الميدانية ethnographie طريقها بدراسة الحدث لتقوية وإسناد الوثائق وبدأت الجدران الموصدة الفاصلة بين مختلف العلوم الاجتماعية بالانهيار ليتحرر علماؤها من عزلتهم وإعلان عهد جديد في كتابة التأريخ. من الأفكار المهمة التي جاء بها مؤسسو الحوليات التي يمكن لها أن تثري الباحث العراقي في ظل الظروف الراهنة هو دراسة الماضي من خلال الحاضر، أي على المؤرخ أن يدرس التأريخ وفقا للظروف والأزمات التي يعيشها. إن الفائدة المرجوة من ذلك هو تنظيم البحوث تبعا لحاجة المشاكل والأزمات المعاصرة الواجب حلها. انطلق فيفر في كتابه عن فيليب الثاني من مشكلتين أساسيتين كان قد عاصرهما : الأولى تكمن في تشجيع مختلف العلوم الإنسانية على التفاعل والعمل سوية،أما الثانية فحاول معالجة الأزمات والمشاكل الأمنية التي عاصرها.
أتمنى، من خلال هذه المقالة، أن يعيد الباحثون النظر في طريقة الكتابة ليس في التأريخ فحسب وإنما في مجمل العلوم الاجتماعية. إن أهمية العلوم الاجتماعية يحفزنا إلى أن نبذل الجهد الكبير لتجريدها من كل تأثير واحترام المسافة بين الباحث وموضوع الدراسة ليتسنى لنا تحقيق تطور ملموس في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والعلوم الإنسانية الأخرى. وان فتح النقاش حول هذا الموضوع سيكون ذا فائدة للبحث التاريخي ومناهج التاريخ في العراق.