مدرسة الحوليات الفرنسية التاريخية
(إطلالة سريعة)
مع بدايات فصول الاجتماع البشرى الباكرة بدأ اهتمام الإنسان بتسجيل الأحداث التاريخية التي تعترى حياته ويسعى لتدبير أمره حال تكرارها ووضع قوانين ثابتة اعتبرها بمثابة ميكانيزمات تحرك عجلة التاريخ ,لينشأ بذلك الوعي والإحساس التاريخيين فى قليل متدرج من النضج والوضوح إلى أن تمخض عنهما نتاج كبير في التأليف والتدوين التاريخيين ,وظلت مناهج الكتابة التاريخية والتحليل تأنس الى الوصف والسرد التاريخي الانتقائي مع جنوح إلى التعميم والأحكام القيمية مع ما يمثله ذلك من وخلل منهج كبير فى الكتابة التاريخية الواجبة فى تقديرنا ,وقد أقنع غياب الروافد المعروفة من العلوم المساعدة المتزايدة والمتعددة الفوائد وعلى الخصوص علوم الاجتماع بفروعه المتعددة التاريخية والريفية والاقتصادية والبدوية والقرابية والأنتروبولوجية والسوسيولوجية وغيرها وكذلك العلوم الدينية والأدبية والفكرية الاقتصاد والإحصاء والجغرافيا وعلم النفس الاجتماعي,,,وغير ذلك كثير مما يمكن المؤرخ ويمده المؤرخ بالقدرة، والكفاءة والرؤيا الصائبة، فى التحليل التاريخي.وفى غضون ذلك النقص القديم فى العلوم المساعدة وغيبة الاحترافية فى الكتابة التاريخية ,مال المؤرخون إلى السرد التفسير بقيت المعرفة التـاريخية العلمية التقليدية التقلية غير مكترثة بمناهج الاستدلال والتحليل و المقابلـة والبرهنة والاستقراء وعميق الفهم بعد تمحيص الأخبار و الوقائع ومعالجتها. لينتقل المؤرخ إلى الاستنتاجات النهائية، من خلال ربط الجزء بالكل والخاص بالعام وغير ذلك.
وعلى ذلك ظلت المدرسة التاريخية العربية التقليدية منصرفة إلى التاريخ الزمني من خلال تتابع الأحداث السياسية و أبطالها الدائمون من الملوك والعظماء والسلالات الحاكمة والأحداث السياسية والمعارك العسكرية والقادة والسياسيون , دونما اكتراث أو ربما مع شحيح اكتراث بدراسة بنية المجتمع من وجهة نظر مادية أو جغرافية أو اقتصادية، الخ أما قاعدة المجتمع من الطبقات والحرف والثقافات والتشكيلات الاجتماعية للمهمشين والبسطاء وأدوارهم فذلك خارج الاهتمام إلا بما يخدم النسق العام فى تلك الكتابة النخبوية ,إلى أن بدأت تلك المدرسة طويلة العمر مترامية الأطراف تفقد قيمتها العلمية بعد أن توجه البحث المنهجي العلمي في التاريخ إلى آماد جديدة تهتم بالتأريخ للمجتمعات، وليس للطبقات المسيطرة، وبالمهمشين والفئات المسحوقة من المجتمع ,ورديفا لذلك برز التأريخ المادي مع ظهور التيار الماركسي الفكري والاجتماعي الذي يرجع التحولات التاريخية في المجتمع إلى التغيرات المادية بالدرجة الأولى. وعلى نقيض ذلك ظهرت المدرسة المثالية على مفاهيم هيجل في التاريخ التي ترجع التغيرات التاريخية إلى الأفكار كمتحكم أساس في التحولات الاجتماعية والتاريخية.
...الى أن ظهرت مدرسة الحوليات الفرنسية الشهيرة في مدينة ستراسبورج في العشرينات من القرن الماضي. على يد المؤرخين الشهيرين مارك بلوخ ولوسيان فيفر. ثم استمرت في الصعود حتى وصلت عام 1970 إلى مرحلة الهيمنة المطلقة. وأنجبت بعضا من كبار المؤرخين الفرنسيين من أمثال فيرنان بروديل، جورج دوبي، جاك لوجوف، الخ. وقد ركزت هذه المدرسة على دراسة البني الاقتصادية والاجتماعية والمادية والجغرافية الديموجرافية قبل أن تهتم بأي شيء آخر
وفى كتاب التاريخ الجديد، لجاك لوجوف الذى ترجمة الأخ والصديق الحبيب الأستاذ الطاهر المنصوري أستاذ العصور الوسطى بجامعة منوبة –تونس اعتبر أن ذلك التوجه المنهجي وليد مدرسة الحوليات هو فى مكوناته مجموعة مناهج في التاريخ تعتبر خروجاً على التاريخ التقليدي لاعتمادها على مفاهيم جديدة كمفهوم تقسيم الآماد التاريخية الى أمد قصير ومتوسط مع التركيز على الأمد الطويل الذي يعني دراسة الموضوع في فترة طويلة ابتداءً من إرهاصات ظهوره مرورا بتوهّجه وصولا إلى ذبوله وتحوله وقيمة ذلك المنهج أنه تخلّ عن الارتباط بالأحداث ليطرح مشاكل لا يمكن تصور دراستها إلا من خلال الديمومة والتعويل على المدة والزمن. ويعتبر فوفيل أن تاريخ الذهنيات هو الحقل المميز للأمد الطويل الذي يسجل تاريخ التطورات التي لا يراها الناس. ويرى فوفيل أن هذا التاريخ لا يمكن اتخاذه والانتفاع به دون اكتشاف مصادر جديدة له مثل لوائح أسعار الحبوب وجداول الحالة المدنية القديمة المتعلقة بالتعميد والزواج والدفن وثورات الأسعار وانعكاساتها وتحليلها وربطها بمتغيرات اجتماعية وسياسية وبيئية ومن نافلة القول أن نذكر رموزا لمؤرخين أتقنوا ذلك وغيروا به وجه الكتابات التاريخية الى مسارات ونتائج غير مسبوقة فى الدراسات التاريخية العثمانية ومنهم المرخون الأتراك أمثال عمر لطفى برقان وخليل إينالجيك وشوكت باموك والأمريكان أمثل ستانفورد شو وليندا دارلنج وكارل بترى ودانيال كريسليوس وجين هاثوى وغيرهم ومن الفرنسيين شيخهم أندريه ريمون وميشيل توشرير ونيقولا ميشيل وراندى دجويليم وجان بول باسكوال ومن المصريين نيللى حنا ومحمد عفيفى وعبد الحميد سليمان ومجموعات واعدة من الشباب تقلب الطاولة بما يقدمونه من دراسات جديدة... وما نود التأكيد عليه أنه مع هذا المنهج الجديد وليد مدرسة الحوليات الفرنسية لم تعد الوثيقة المكتوبة الوثيقة التاريخية الوحيدة لدينا هنا الآثار والوثيقة المصورة والتحقيق الشفوي. والبني والأنثروبولوجيا التاريخية والذهنيات والثقافة المادية ,وقد أغراهم بذلك اكتشافات كبرى لفيوض الوثائق المتباينة المستوى والمصادر التاريخية الوثائقية التي تضج بها الأرشيفات الكبرى ودور الوثائق فى العالم هي المصدر الأهم للتاريخ مع اهتمامهم إلى ذلك بالتاريخ الشفوي والتراث المادي.واعتبر ذلك الاتجاه المغيّبين والمهمشين موضوعا أساسا له من خلال دراسة المتروك من المصادر والمغيّب من الفئات الاجتماعية كتاريخ المجانين، وتاريخ الرعاة، و اللصوص والمومسات والعنف الاجتماعي والرفض والاحتجاج والظواهر الاجتماعية والذهنية منذ فترات انبلاجها مرورا بفترات الأوج إلى أن تذوي لا لتنتهي بالضرورة ولكنها قد تستمر بشكل أو بآخر وتتم دراستها من خلال الأخذ بالاعتبار مظاهر الثبات والتحول . كما اهتمت هذه المدرسة بمسألة الوعي واللاوعي، فالناس يصنعون التاريخ ولكنهم لا يشعرون بذلك.......هذا قليل من كثير وأدعو شباب الباحثين العرب الى أن يقرءوا تفاصيل أوسع وآفاق ارحب عن مدرسة الحوليات الفرنسية وروادها ومناهجها ولا ينسوا التعويل بعد القراءة وعميق الفهم أن يطالعوا بعض الدراسات التى سلكت هذا الطريق ليكون ذلك دليلا عمليا ناصعا حتى تستبان الرؤى وننتقل بالتاريخ ومناهجه الى آماد جديدة ونحن نشرع فى اجتياز طريقنا الى التقدم والتطور والارتقاء المأمول...وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الأستاذ الدكتور عبد الحميد سليمان
...أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر